( شريعتي موحدا ) قراءة في الرؤية التوحيدية في فكر علي شريعتي
رضي فاهم الكندي
التوحيد بمعنى أن هناك خالقًا واحدًا لهذا
الكون بصفات لايدنو إليها النقص بأي شكل من الإشكال، وهو أمرٌ فطري تدركه
الفطرة السليمة الصافية ( فكل مولود يولد على الفطرة ) ، و البيئة
واضطراباتها هي من تعمل على تغيير هذه الفطرة إلى درجة لا تسلم بأوضح الواضحات وتناقش في كل البديهيات .
بيد أن ما يميز شريعتي هنا هو منهجيته في معرفة التوحيد ، وفق المنهج العقلي الذي يبحث عن الدليل ، وتتضح لنا هذه المنهجية من خلال ما يأتي :
1- قبل أن يخوض شريعتي حديثه عن التوحيد يسلط الضوء على أهميته بوصفه الخير الذي ينطلق منه كل خير ،
وينطلق في ذلك لمقولة لوالده وهي ( إن التوحيد ليس أصلاً من الأصول العقائدية للدين الإسلامي على غرار الأصول الأخرى لهذا الدين كالنبوة و المعاد وغيرها ، التوحيد هو الأسّ الذي تبتني عليه سائر الأصول العقائدية ) (1)، ويعلق شريعتي على هذا الكلام محاولا بيان معناه وتحديدا كلمة ( أسّ ) معيدًا صياغتها بطريقته الخاصة فيقول ( إن التوحيد أسّ لسائر العقائد و ليس واحدًا منها – يمكن صياغته على النحو التالي بأن يقال : إن التوحيد هو أساس الحياة الفردية و الاجتماعية ، مادية ومعنوية ، وبعبارة أخرى إنه الوجه المشترك في جميع أنحاء الحياة الإنسانية من أفكار و أفعال و مشاعر وأحاسيس على اختلاف أشكالها و كيفياتها ) ( 2 ) .
ورؤية التوحيد بهذا المعنى لها أصل في تراث أهل البيت ، حيث جعله أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) غاية ما سعى إليه وأقام الحروب لأجله وحمل السيف لتثبيت جذوره في واحة العقيدة ؛ جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (عن مقدام بن شريح بن هانيء ، عن أبيه قال : إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ، أتقول إن اللّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب !؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « دعوه ، فإن الذي يريده الأعرابي هوالذي نريده من القوم» .) ( 3 ) أو بعد كلام أمير الكلام بيان ؟ .
2- كان شريعتي كعادته – جريئا – في طرح التوحيد بأسلوب ، يختلف فيه عن الطرح المتعارف عليه من عرض للأدلة العقلية و النقلية ؛ حيث يبدأ مسيرته في طرح رؤيته التوحيدية من الاعتراف بالخطر الذي داهم الساحة الإسلامية ويعني بها أفكار الوجودين أمثال بول سارتر ، حيث كانت كانت تمر إيران في السنوات ( 1954- 1955 ) بحالة من الانفتاح على الفكر الأوربي بسبب سياسة الشاه الموالية للغرب التي سمحت بتوافد الكثير من الأفكار إلى إيران مما أدى إلى وجود حالة من الضعف لدى الشباب المؤمن فأراد شريعتي أن يبدأ معها مرحلة العلاج علاج الشك يبدأ من الاعتراف بالشك للحصول إلى اليقين ، ولذلك أشار بقوله : ( خلال العامين ( 1954- 1955 ) عانيتُ من أزمة فكرية و فلسفية حادة ، ففي تلك الأيام ، ومثل سائر شباب هذا المجتمع ممن كانوا يماثلونني في السن ، وليس لديهم قاعدة فكرية متينة و لارصيد كافٍ من المعلومات ، شأني شأن هؤلاء تعرضت لحملة أفكار خطيرة ومسمومة مصدرها الفلسفة الأوربية المتأزمة ) (4)
3- استفاد شريعتي من الأسلوب القرآني ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) في طرح رؤيته التوحيدية ، فلم يجعل نفسه بمنأىً عن خطورة هذه الأفكار وهو بذلك يريد أن يُشعر الآخرين بخطورة المسألة التي تواجه عقيدتهم ، وهو أسلوب قرآني لطيف يستدعي احترام المخاطبين به لكي لايجرح مشاعرهم ليقول لهم أنتم مشككون بصورة غير مباشرة ، وبنفس الوقت يوصل إليهم رسالته بأدب رفيع فيكون أدعى إلى الالتزام بها ، لا كما يفعله بعض الناصحين و الواعظين فأول ما يتهم الآخرين مبرءا بذلك نفسه ، ولذلك نجد شريعتي يجعل نفسه ضمن الآخرين في خطورة الموقف ( في تلك الأيام ، وحيث لم تكن هناك مجالات ترفيهية مناسبة للشباب المثقف لكي يشغلوا أوقات فراغهم بها ، تأثرت شأني شأن الكثير من أولئك الشباب بأفكار موريس مترليغ و شوبنهاور و كافكا و صادق هديت و أمثالهم ) ( 5 ) .
4- بعد إيقاض الآخرين من سباتهم وإشعارهم بخطورة المسألة توجه إلى العلاج من خلال الوقوف على الأسباب ؛ وهي في نظره تعود إلى أمرين أساسيين ؛ وهما :
الأول / عدم وجود تربية دينية أسرية و مجتمعية بمستوى الإشكالات المطروحة آنذاك ، وإنما هي في الأعم الأغلب تربية تقليدية في توارث المعلومات التي تتعلق بالعقيدة ، وهذا لايساعد على صمودها حين مواجهة أدنى الإشكالات التي تندرج ضمن هذه النمطية وخاصة إذا ما أُلبست بزي الحداثة و العصرنة ، ولعلنا اليوم نعيش إرهاصات تلك المرحلة التي واكبها شريعتي ، ويعرض لهذا الأساس بقوله: ( ولما لم يكن الإله الذي صوروه لي في دين الصبا بقادر على أن يلبي طموحي ويملأ الفراغ الذي أشعر به ، رأيتني أمام واقع مرعب يهدد كياني من الأساس ، ويتوعد وجود حياتي ...) (6) ، فكم وكم من عقائدنا تقوم على أساس ( قيل لي ) و (يُحكى في المنام ) هذا إن كانت هناك حكاية أو قول وإنما تثار مثل هذه المسائل في المواسم الدينية فقط .
الثاني / التقصير الكبير من قبل شريحة المثقفين و المفكرين في بيان نقاط القوة في عقيدتهم من خلال ما يكتبون وهذا أقرب ما يكون من الدعوة إلى ( الهجوم الاستباقي ) على صعيد المواجهة (والواقع إن هذا المصير المشؤوم - يقصد الاضطراب الحاد في عدم القدرة على التوفيق بين الإيمان القلبي وما يطرح في ساحة العقل و الفكر من شبهات - كان يلاحق جميع شباب هذا المجتمع ممن لم يكونوا يحظون بثقافة هادفة ذات وجهة صحيحة ولا اقصد وزارة الثقافة بقدر ما أقصد النتاج الفكري و الثقافي لمفكرينا و كتابنا و مؤلفينا و مترجمينا ممن قصروا همتهم فيما يكتبون و يطبعون و ينشرون على ما ينفعهم لا ما ينفع الآخرين ) ( 7 ) .
واليوم ألا نعيش شطرا كبيرا من هذه المرحلة فكم هي نقاط القوة في ديننا وإسلامنا ؟ ما هو الطرح الذي يمكننا أن نُبقي به على ما تبقى من أشلاء عقيدتنا المتناثرة بين تخوم الحوارات الجانبية بدءا من الأشخاص في المذهب الواحد والدين الواحد ومرورا بالمؤسسات السياسية و الدينية فأشغلونا بأنفسنا عن أنفسنا وتسللوا من وراء الحصون ؟ وكم هي نسبة تلك الكتابات التي نستطيع بها أن نرفع رؤؤسنا باعتزاز وافتخار أمام الكم الهائل من كتب الالحاد وما شابه ذلك ؟
إذن شريعتي يحمل الجميع مسؤولية ما يحصل لدى الشباب الإيراني المؤمن من حالة الانهيار أمام هذه الشبهات الوافدة وأولهم المثقف و المفكر لأنهم لم يؤدوا دورهم ويدافعوا عن عقيدتهم ، ولأنه يدرك بوعي منه الدور الذي يمكن أن يضطلعوا به لو أدوا ما عليهم من مسؤوليات بصورة صحيحة ، فضلا على التربية التقليدية السطحية التي تصور الدين في صورة تقاليد و طقوس متوارثة فحسب .
5- لم يكن الشك الذي مر به الشباب الإيراني كما صوره شريعتي إلا خطوة مرحلية ليدفعهم نحو اليقين والبحث عن التوحيد بآليات العصر لأن العلاج يبدأ من الاعتراف بالخطأ وخطورته ، والشك منه ما يكون باختيار الفرد ابتداءًا وهذا ما يرفضه الشارع المقدس ، إلا أنه حينما تداهمك الشكوك وتجعلك في حيرة ومتاهة عليك أن تداهمها أنت في عقر دارها وتبحث عن نقاط الضعف و الوهن فيها لتأخذ بزمام المبادرة، وقد دعا الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) إلى اتباع العلماء ممن هم وفق هذا النمط ، بقوله (لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين ) (8 ) ، وما دام الشك مقدمة لليقين فأنت في مأمن من الضلال ، قال علي ( عليه السلام ) : ( لن يضل المرء حتى يغلب شكه يقينه ) ( 9 ) ، وهذا هو المهم أن لايتحول به الشك إلى الإرتداد بل قد يزيد من يقينك ويجعلك من أعلم العلماء ، وهذا ما أكده علي عليه السلام بقوله:( أعلم الناس من لم يُزل الشكُ يقينَه ) (10) ، فالمهم ما يحصل بعد مرحلة الشك ، وهنا يكون الحفاظ على ثمار ومكتسبات الشك الموصل إلى اليقين مسؤلية رجال الدين والمفكرين و المثقفين الرساليين .
6- نصل مع شريعتي إلى يقينه بوحدانية الله بصدورها من قلب موحد بحث عن ربه فوجده وتسلح بسلاح العلم فعرف سبيل الحق واتبعه ، تأمل بكلماته يقول : (( الله ليس خالق الكون فحسب ، وليس مجرد جواب على استفسار علمي حول كيفية خلق الوجود ، بل هو الكون و الوجود بعينه ، فالوجود لولاه كلمة لا معنى لها ، تافهة ، فارغة من المضمون ، وجه جميل لفتاة حمقاء . الله هو معنى الوجود و وجهته ، منه تكتسب الخلقة الحياة ، وبه تزدهر الطبيعة ، ومعه يصبح للكون هدف وإرادة وقيمة و عظمة ( و العظمة هنا ليست بمعنى الضخامة و التعقيد والاتساع ) . إن الكون بلا إله جثة هامدة لا حراك فيها ، والإنسان جزء من هذا الكون العظيم ، إنها لخرافة كبيرة، أن يقال أن الله إذا لم يكن موجودا و كان الوجود مجرد حماقة كما يقول جان بول سارتر ، فإن الإنسان قادر على أن يمنح غاية ومعنى للكون أو لنفسه على الأقل ) ) (11) .
لقد جعل شريعتي من الحياة أمرا فارغ المحتوى عديم اللون و الطعم والرائحة بغير معرفة التوحيد الذي يتفرع منه كل خير ، بعد كل هذا الطرح التوحيدي أو يعقل أن يكون شريعتي شاكا وماذلك إلا لأنه سافر إلى الغرب ودرس فيها ؟ ، فلنتأمل ماذا قال بحق أفكار سارتر الوجودية قال عنها : إنها (خرافة كبيرة).
فحري بنا أن نأخذ منهجية شريعتي التوحيدية ونطبقها على واقعنا كل بحسبه فالإنسان المتواضع يراجع ذوي الاختصاص في إثارة المسائل التي تتعلق بالتوحيد وتثبيتها في القلب احترازا مما قد يعترضه هنا و هناك ، والمفكر و المثقف يحملون بأقلامهم ما يستطيعون من نشر الأفكار التي تحفز على البحث في التوحيد وما يتعلق به والإجابة على الشبهات المطروحة من قبل الملحدين وأشباههم ، ورجل الدين مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يغير طرحه على المنبر ليخصص وقتا مهما من محاضراته و خطبه بما يتعلق في هذه الشبهات وإجابتها ،
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
بيد أن ما يميز شريعتي هنا هو منهجيته في معرفة التوحيد ، وفق المنهج العقلي الذي يبحث عن الدليل ، وتتضح لنا هذه المنهجية من خلال ما يأتي :
1- قبل أن يخوض شريعتي حديثه عن التوحيد يسلط الضوء على أهميته بوصفه الخير الذي ينطلق منه كل خير ،
وينطلق في ذلك لمقولة لوالده وهي ( إن التوحيد ليس أصلاً من الأصول العقائدية للدين الإسلامي على غرار الأصول الأخرى لهذا الدين كالنبوة و المعاد وغيرها ، التوحيد هو الأسّ الذي تبتني عليه سائر الأصول العقائدية ) (1)، ويعلق شريعتي على هذا الكلام محاولا بيان معناه وتحديدا كلمة ( أسّ ) معيدًا صياغتها بطريقته الخاصة فيقول ( إن التوحيد أسّ لسائر العقائد و ليس واحدًا منها – يمكن صياغته على النحو التالي بأن يقال : إن التوحيد هو أساس الحياة الفردية و الاجتماعية ، مادية ومعنوية ، وبعبارة أخرى إنه الوجه المشترك في جميع أنحاء الحياة الإنسانية من أفكار و أفعال و مشاعر وأحاسيس على اختلاف أشكالها و كيفياتها ) ( 2 ) .
ورؤية التوحيد بهذا المعنى لها أصل في تراث أهل البيت ، حيث جعله أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) غاية ما سعى إليه وأقام الحروب لأجله وحمل السيف لتثبيت جذوره في واحة العقيدة ؛ جاء في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (عن مقدام بن شريح بن هانيء ، عن أبيه قال : إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ، أتقول إن اللّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب !؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « دعوه ، فإن الذي يريده الأعرابي هوالذي نريده من القوم» .) ( 3 ) أو بعد كلام أمير الكلام بيان ؟ .
2- كان شريعتي كعادته – جريئا – في طرح التوحيد بأسلوب ، يختلف فيه عن الطرح المتعارف عليه من عرض للأدلة العقلية و النقلية ؛ حيث يبدأ مسيرته في طرح رؤيته التوحيدية من الاعتراف بالخطر الذي داهم الساحة الإسلامية ويعني بها أفكار الوجودين أمثال بول سارتر ، حيث كانت كانت تمر إيران في السنوات ( 1954- 1955 ) بحالة من الانفتاح على الفكر الأوربي بسبب سياسة الشاه الموالية للغرب التي سمحت بتوافد الكثير من الأفكار إلى إيران مما أدى إلى وجود حالة من الضعف لدى الشباب المؤمن فأراد شريعتي أن يبدأ معها مرحلة العلاج علاج الشك يبدأ من الاعتراف بالشك للحصول إلى اليقين ، ولذلك أشار بقوله : ( خلال العامين ( 1954- 1955 ) عانيتُ من أزمة فكرية و فلسفية حادة ، ففي تلك الأيام ، ومثل سائر شباب هذا المجتمع ممن كانوا يماثلونني في السن ، وليس لديهم قاعدة فكرية متينة و لارصيد كافٍ من المعلومات ، شأني شأن هؤلاء تعرضت لحملة أفكار خطيرة ومسمومة مصدرها الفلسفة الأوربية المتأزمة ) (4)
3- استفاد شريعتي من الأسلوب القرآني ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) في طرح رؤيته التوحيدية ، فلم يجعل نفسه بمنأىً عن خطورة هذه الأفكار وهو بذلك يريد أن يُشعر الآخرين بخطورة المسألة التي تواجه عقيدتهم ، وهو أسلوب قرآني لطيف يستدعي احترام المخاطبين به لكي لايجرح مشاعرهم ليقول لهم أنتم مشككون بصورة غير مباشرة ، وبنفس الوقت يوصل إليهم رسالته بأدب رفيع فيكون أدعى إلى الالتزام بها ، لا كما يفعله بعض الناصحين و الواعظين فأول ما يتهم الآخرين مبرءا بذلك نفسه ، ولذلك نجد شريعتي يجعل نفسه ضمن الآخرين في خطورة الموقف ( في تلك الأيام ، وحيث لم تكن هناك مجالات ترفيهية مناسبة للشباب المثقف لكي يشغلوا أوقات فراغهم بها ، تأثرت شأني شأن الكثير من أولئك الشباب بأفكار موريس مترليغ و شوبنهاور و كافكا و صادق هديت و أمثالهم ) ( 5 ) .
4- بعد إيقاض الآخرين من سباتهم وإشعارهم بخطورة المسألة توجه إلى العلاج من خلال الوقوف على الأسباب ؛ وهي في نظره تعود إلى أمرين أساسيين ؛ وهما :
الأول / عدم وجود تربية دينية أسرية و مجتمعية بمستوى الإشكالات المطروحة آنذاك ، وإنما هي في الأعم الأغلب تربية تقليدية في توارث المعلومات التي تتعلق بالعقيدة ، وهذا لايساعد على صمودها حين مواجهة أدنى الإشكالات التي تندرج ضمن هذه النمطية وخاصة إذا ما أُلبست بزي الحداثة و العصرنة ، ولعلنا اليوم نعيش إرهاصات تلك المرحلة التي واكبها شريعتي ، ويعرض لهذا الأساس بقوله: ( ولما لم يكن الإله الذي صوروه لي في دين الصبا بقادر على أن يلبي طموحي ويملأ الفراغ الذي أشعر به ، رأيتني أمام واقع مرعب يهدد كياني من الأساس ، ويتوعد وجود حياتي ...) (6) ، فكم وكم من عقائدنا تقوم على أساس ( قيل لي ) و (يُحكى في المنام ) هذا إن كانت هناك حكاية أو قول وإنما تثار مثل هذه المسائل في المواسم الدينية فقط .
الثاني / التقصير الكبير من قبل شريحة المثقفين و المفكرين في بيان نقاط القوة في عقيدتهم من خلال ما يكتبون وهذا أقرب ما يكون من الدعوة إلى ( الهجوم الاستباقي ) على صعيد المواجهة (والواقع إن هذا المصير المشؤوم - يقصد الاضطراب الحاد في عدم القدرة على التوفيق بين الإيمان القلبي وما يطرح في ساحة العقل و الفكر من شبهات - كان يلاحق جميع شباب هذا المجتمع ممن لم يكونوا يحظون بثقافة هادفة ذات وجهة صحيحة ولا اقصد وزارة الثقافة بقدر ما أقصد النتاج الفكري و الثقافي لمفكرينا و كتابنا و مؤلفينا و مترجمينا ممن قصروا همتهم فيما يكتبون و يطبعون و ينشرون على ما ينفعهم لا ما ينفع الآخرين ) ( 7 ) .
واليوم ألا نعيش شطرا كبيرا من هذه المرحلة فكم هي نقاط القوة في ديننا وإسلامنا ؟ ما هو الطرح الذي يمكننا أن نُبقي به على ما تبقى من أشلاء عقيدتنا المتناثرة بين تخوم الحوارات الجانبية بدءا من الأشخاص في المذهب الواحد والدين الواحد ومرورا بالمؤسسات السياسية و الدينية فأشغلونا بأنفسنا عن أنفسنا وتسللوا من وراء الحصون ؟ وكم هي نسبة تلك الكتابات التي نستطيع بها أن نرفع رؤؤسنا باعتزاز وافتخار أمام الكم الهائل من كتب الالحاد وما شابه ذلك ؟
إذن شريعتي يحمل الجميع مسؤولية ما يحصل لدى الشباب الإيراني المؤمن من حالة الانهيار أمام هذه الشبهات الوافدة وأولهم المثقف و المفكر لأنهم لم يؤدوا دورهم ويدافعوا عن عقيدتهم ، ولأنه يدرك بوعي منه الدور الذي يمكن أن يضطلعوا به لو أدوا ما عليهم من مسؤوليات بصورة صحيحة ، فضلا على التربية التقليدية السطحية التي تصور الدين في صورة تقاليد و طقوس متوارثة فحسب .
5- لم يكن الشك الذي مر به الشباب الإيراني كما صوره شريعتي إلا خطوة مرحلية ليدفعهم نحو اليقين والبحث عن التوحيد بآليات العصر لأن العلاج يبدأ من الاعتراف بالخطأ وخطورته ، والشك منه ما يكون باختيار الفرد ابتداءًا وهذا ما يرفضه الشارع المقدس ، إلا أنه حينما تداهمك الشكوك وتجعلك في حيرة ومتاهة عليك أن تداهمها أنت في عقر دارها وتبحث عن نقاط الضعف و الوهن فيها لتأخذ بزمام المبادرة، وقد دعا الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) إلى اتباع العلماء ممن هم وفق هذا النمط ، بقوله (لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين ) (8 ) ، وما دام الشك مقدمة لليقين فأنت في مأمن من الضلال ، قال علي ( عليه السلام ) : ( لن يضل المرء حتى يغلب شكه يقينه ) ( 9 ) ، وهذا هو المهم أن لايتحول به الشك إلى الإرتداد بل قد يزيد من يقينك ويجعلك من أعلم العلماء ، وهذا ما أكده علي عليه السلام بقوله:( أعلم الناس من لم يُزل الشكُ يقينَه ) (10) ، فالمهم ما يحصل بعد مرحلة الشك ، وهنا يكون الحفاظ على ثمار ومكتسبات الشك الموصل إلى اليقين مسؤلية رجال الدين والمفكرين و المثقفين الرساليين .
6- نصل مع شريعتي إلى يقينه بوحدانية الله بصدورها من قلب موحد بحث عن ربه فوجده وتسلح بسلاح العلم فعرف سبيل الحق واتبعه ، تأمل بكلماته يقول : (( الله ليس خالق الكون فحسب ، وليس مجرد جواب على استفسار علمي حول كيفية خلق الوجود ، بل هو الكون و الوجود بعينه ، فالوجود لولاه كلمة لا معنى لها ، تافهة ، فارغة من المضمون ، وجه جميل لفتاة حمقاء . الله هو معنى الوجود و وجهته ، منه تكتسب الخلقة الحياة ، وبه تزدهر الطبيعة ، ومعه يصبح للكون هدف وإرادة وقيمة و عظمة ( و العظمة هنا ليست بمعنى الضخامة و التعقيد والاتساع ) . إن الكون بلا إله جثة هامدة لا حراك فيها ، والإنسان جزء من هذا الكون العظيم ، إنها لخرافة كبيرة، أن يقال أن الله إذا لم يكن موجودا و كان الوجود مجرد حماقة كما يقول جان بول سارتر ، فإن الإنسان قادر على أن يمنح غاية ومعنى للكون أو لنفسه على الأقل ) ) (11) .
لقد جعل شريعتي من الحياة أمرا فارغ المحتوى عديم اللون و الطعم والرائحة بغير معرفة التوحيد الذي يتفرع منه كل خير ، بعد كل هذا الطرح التوحيدي أو يعقل أن يكون شريعتي شاكا وماذلك إلا لأنه سافر إلى الغرب ودرس فيها ؟ ، فلنتأمل ماذا قال بحق أفكار سارتر الوجودية قال عنها : إنها (خرافة كبيرة).
فحري بنا أن نأخذ منهجية شريعتي التوحيدية ونطبقها على واقعنا كل بحسبه فالإنسان المتواضع يراجع ذوي الاختصاص في إثارة المسائل التي تتعلق بالتوحيد وتثبيتها في القلب احترازا مما قد يعترضه هنا و هناك ، والمفكر و المثقف يحملون بأقلامهم ما يستطيعون من نشر الأفكار التي تحفز على البحث في التوحيد وما يتعلق به والإجابة على الشبهات المطروحة من قبل الملحدين وأشباههم ، ورجل الدين مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يغير طرحه على المنبر ليخصص وقتا مهما من محاضراته و خطبه بما يتعلق في هذه الشبهات وإجابتها ،
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
1- معرفة الإسلام – علي شريعتي – ص 143 ، دار الأمير ، بيروت
2- السابق – ص 143- 144
3- رواه الصدوق في التوحيد 83 ، 3 ، والخصال 2 ، 1
4- معرفة الإسلام - ص 144 ، دار الأمير ، بيروت
5- السابق - ص 154
6- السابق - ص 145-146
7- السابق - ص 147
8- الاختصاص / 86
9-ميزان الحكمة – الريشهري – باب الشك
10- المصدر السابق
11- معرفة الإسلام - ص 150 - 151 ، دار الأمير ، بيروت
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |