الأحداث المصرية: ما بين الأدلجة الأسيرة،
والعاطفانية التبريرية، والمشروع الغربي (ج 1)
د. الطيب بيتي العلوي *
" من حسنت بدايته كملت نهايته، ومن ساءت بدايته كثرت سقطاته، وإياكم وصغائر الأغلوطات، فإنها ما اجتمعت على أقوام إلا أردتهم... " أبوالقاسم الجنيد البغدادي العراقي
مقاربة ( أنثروبو - سياسية)
تتهاطل التحليلات المتسارعة - عربياً ودولياً - التي تصدرعن معارضين سياسيين من العيار الثقيل - في الداخل والخارج – أو الصادرة عن أكاديميين باحثين وسياسيين ومنظرين وإيديولوجيين ومتلفسفين، لتوضيح المشهدالمصري الحالي الملغوز، حيث تشوب هذه التحليلات قدر كبيرمن التقصير و الثغرات.
ويتلخص هذا القصور، في أن معظم التحليلات ركزت على خطابين أساسيين:
- أولاً: كلاسيكية خطاب "لأدلجة الأسيرة" التي لا تتناسب وحجم "الحدث" المفاجئ، الذي لم تعرف مصر نوعيته – سوسيولوجياً - حتى في ثورة ع2 و(هذا لا يعني التنقيص من ثورة الضباط الأحرار التي ألهمت الثورات اللاحقة ضد الإستعمارفي العالم العربي وإفريقيا وساندتها ماديا ومعنويا ) التي وهي ذات الخطابات التي تعودت عليها الآذن المصرية والعربية منذ ما بعد "الناصرية" التي طبعت معظم خطابات ممثلي التيارات السياسية المتنوعة التي لم تطرح جديدا من شأنه زعزعة الطمانينات التي يستمد حسني مبارك منها أوكسيجينه ، من: الأمريكيين والإسرائليين والأوروبيين الذين يحذرونه ويتوعدونه ويذكرونه بمحتمية نهايته المخزية إن إستسلم .... ومن أنظمة عربية هلوعة تناشده بعدم إعطاء الشرعية لهبة "الغوغاء" و"الدهماء و"الرعاع " و"الفوضويين" لكي لا يطالهم مصيره سواء أكانت "المخابرات الأمريكية " هي التي نصبت له الشباك - كما يرى ذلك بعض اليساريين الأوروبيين - وسواء أكانت الهبة عفوية شعبية وتعبيراً على أنه "قد بلغ السيل الزبى" (وكم من هبات عفوية شعبية سابقة عرفتها مصر والعالم العربي وأوروبا في الماضي البعيد والقريب أوروبا الحالية في ربيع عام 2010 التي كانت أكثر عدداً وتحضيراً وبرمجة وتنظيماً ولم تغير واقعاً – كما يتسائل آخرون) مما جعل الرئيس حسني مبارك يحافظ على كامل "عافيته الصحية والنفسية" في خطابيه العبثيين كاقتراح للخروج من ورطته، في حين أن "الرايس" تناسى: أن المثل الدارج المصري يقول: " إن كان حبيبك عسل ماتلحسوش كولو " وقد لحس مبارك العسل كله و"مضغ " شهده" وعصر خلاياه حتى اهاج النحل فقرصه قرصة لن يقوم بعدها.
ثانياً: " خطابات: العاطفانية التبريرية-sentimentalisme التي ظهرت- فجأة- على لسان وكتابات أكاديميين مصريين يشتغلون في مراكز البحوث الأمريكية مثل مركز "منتدي الشرق الأوسط للحريات" و"معهد ديل كارنيغي" التي تعزف على الشوفينية "المصرية" و"خصوصية" مصر والمصريين، يشتم منها تلك الخطابات الفرعونية القديمة التي روج لها رموزفكرية عملاقة منذ 1919 أصلت للتيار "الفرعوني" مثل " سلامة موسى وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور ولويس عوض وطه حسين، الداعية إلى اللاعروبية واللاإسلامية واللاقومية، وفصل مصرعن "خلفياتها الإقليمية والحضارية والثقافية الأصيلة وربطها بذلك المصطلح المائع الذي هو: "الثقافة والحضارة المتوسطية" كما قعد له الدكتور طه حسين في كتابه المعروف: "مستقبل الثقافة في مصر" قبل تنصيبه كوزير للثقافة زمنها، والدعوة إلى تأليه "حركة شباب الفيس بوك " المتمردين على " كل الأبويات " حسب تعبيرهم، فخلطوا في الأذهان، ما بين النظام الفاسد والأسرة والمجتمع والدين والتقاليد، بالإشادة بعبقريتهم و"تجميد" العقل" والتحذير من التفكير في من هم؟ " لأنهم يعرفون مايريدون، بينما الكبار يتخبطون "حسب تعابير محللين "جادين" وهي تصريحات ليست بريئة ولا عبثية أو أعتباطية، بل هي جذيرة بالدراسة والبحث والإهتمام، كونها تصدر من مراكز بحوث أمريكية، تقع على آلاف الكيلومترات من عين المكان، والتي من أهم إختصاصاتها الأساسية هي: البحث العلمي الدقيق في كل كبيرة وصغيرة في العالمين العربي والإسلامي، تسخر له إمكانيات وآليات لوجيستية هائلة لتمكينها من سبر أغوار جذور كل حركة اجتماعية في العالم العربي ومعرفة توجهاتها وأهدافها.
ملاحظات:
ومن هذه الزاوية، فلا مشاحنة في أننا أمام إ نتفاضة مصرية متفردة في التاريخ العربي المعاصر، وظاهرة تتجاوز كل المعطيات العتيقة للنظريات (السوسيو - سياسية)، و تقدم للباحثين الجادين - في مجالات علوم الأناسة - أنموذجاً خاصاً بعيداً عن الإصطخابات الإنفعالية المستجيبة للظرفية السياسية، وحينية طلبات السوق الإعلامية الفورية، والإستهلالك السياسي والتنظيري الرخيصين، لكونها أكثر تعقيداً من الحالة التونسية، لما يتغشاها من مفاجئات ومعالم غامضة، قد تؤثر إيجاباً أوسلباً على المدى القريب في ما جرى في تونس، وما سيجري في الأردن واليمن والجزائر، والقائمة ستطول، بالنظر للحيثيات التالية:
- حيث أن حركة لعبة الدومينو إنطلقت بدون سابق إندار - ولا يمكن تبسيط أسباب نشوئها إلى حرق جسد من هنا أوإنتحار من هناك، أو لعوامل إقتصادية أوإجتماعية بحثة، كما درجت كراسات تدريس التاريخ على تبسيطه لتلامذتنا في أسباب نشوب الصراعات والثورات والحروب -، حيث انطلقت قطعة الدومينو لتطيح بكل الكراسي والعروش التي لا تستجيب إلى الحدود الدنيا، لآمال وتطلعات شعوبها وينطبق عليها: قانون "بقعة الزيت"la tache d’huil التي تشيع وتنتشر ولا يمكن إزالتها بسهولة،- ولا مجال هنا لتكرارتلك المقولة الهروبية المتخابثة القائلة "بأن لكل بلد عربي خصوصيته" قصد إطالة عمر انظمة مماثلة للنظامين التونسي أو المصري فقد قالها محللون كبارمثل بطرس غالي -الوزيرالمصري ورئيس الأمم المتحدة الأسبق، في تصريح لصحيفة فرنسية وعلى الإذاعة، بأنه يستحيل تطبيق التجربة التونسية على مصر، لأن الشعب المصري يحب مبارك - وقد خاب تقييمه-. والمرؤ الذى يركب في سفينة غارقة لا بد أن يفكرفى السفن الغارقة - حسب تعبير" جورج أوريل".
- وحيث أن النظام المصري الحالي في المنظورالغربي هو بمثابة "برج بابل الأعظم " وإنهياره – خارج الرؤية : (الكوسمو- الاستراتيجية - السياسية) الغربية هي من سابع المستحيلات - بالنسبة للغرب وإسرائيل، ولن يسمح به على الأطلاق اذا لم يؤت بنظام بديل على الفورفي ما يسمى بفخ "المرحلة الإنتقالية" التي هي من أخطر "البراديغمات" في "الجيوبوليتيك" التي هي بمثابة الأشواط الإضافية في كرة القدم، واللعب على الدقائق الضائعة ربحاً للوقت وإضعاف الخصم، وهذا ما يفسر تقاطر الخبراء الأمريكيين وسفرائهم السابقين في مصر، وتصريحات خبرائهم المصريين المشتغلين في مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، مما يعني ببساطة – بالنسبة للغرب: نهاية المشاريع الغربية في المنطقة وإزالة الكيان الصهيوني ونهاية سلطة رام الله في فلسطين المحتلة - وذلك لاعتبارات متشابكة تحتاج إلى المزيد من الأبحاث.
- عدم إغفال مسلمة واحدة ووحيدة وهي: أن سقوط مصر في أيدي أي تنظيم معادي للغرب (سواء أكان إسلامياً أو علمانياً) معناه بكل وضوح : نهاية الوجود الأمريكي، وخلط كل الأوراق "الجيو- إستراجيتية" التي أسس عليها الغرب أنظومته الكونية وكل أطروحاته السياسية ، القديمة والمتجددة في (العالم العربي - الإسلامي) منذ نهاية الحرب العالمية ، وذاك مما لن تسمح به القوى الغربية مهما سيكلفها ذلك من أثمان باهضة، ولو حولوا مبارك إلى "نيرون العصر".
- وحيث أن: هذا الحدث المصري هو من التعقيد والتشابك، بحيث لا يمكن إخضاعه للمعطيات السوسيولوجية الأركية التي وضعها الفكر البورجوازي الغربي – وليس الثوري- في القرن التاسع عشر، وظل علم الاجتماع الغربي نفسه يتأرجح – إلى اليوم ما بين "العقلانية العلمية" و"الغاية التركيبية" وما يزال "علما" لم يجد طريقه بعد، ولم يحدد له تعريفا جامعاً مانعاً شاملاً منذ أن وضع أسسه العلامة إبن خلدون، وصولاً إلى "أوغيست كونت" إنتهاء بالمدرسة الروسية: "اوزيبوف" و"كوتسانتينوف" و"كيل" في روسيا، وريمون آرون بفرنسا و" فسيبيت" و"ليون" وغيرهم في امريكا بحيث ما يزال هذا العلم يبحث عن نفسه – حسب تعبيركبير الأنثروبولوجيين الفرنسيين "إدغار موران".
وهذا معناه : عجز الباحثين الجادين - على المدى القريب - عن تجلية حقيقة ما يجري في مصر وما يخطط لها من العجب العجاب ليل نهار-غربيا- كما يقف الشارع العالمي كله مكبلا أمام تعملق تدفق المعلومات المتضاربة السريعة ، ويواجه تساؤلات التحولات الفجائية التي تتقدمه – زمنيا - فيصعب عليه استيعابها ومعرفة تجلياتها الحقيقية، فتتزئبق أمام الجميع :سياسيون ومؤرخون ومنظرون ومحللون وإعلاميون ومثقفون ومبدعون، الرؤى والأجوبة والحلول ولاأحد يجد قبالته، سوى تصريحات تتكرر– أركستراليا - لذات الأجوبة الجاهزة، والآراء "المعلبة"، وكثرة الإستغراق في التنقيب في المرجعيات "المتحفية" الغربية ، لمفاهيم الأنواروالتنوير وشروط الثورة والتثوير، في سبيل مسايرة "اللحظة التاريخية".
ويعني – بإختصار- بأنه من العبث "التنقيص" مما يجري اليوم في العالم العربي، وإختزال فهم هذه الظاهرةالجديدة التي فاجأت العالم كله على الأرض العربية: "مصر" التي أفرزتها ظروف (سوسيو- تاريخو- سياسية- ثقافية) محلية معقدة، ومحاولة إختزالها إلى تفاسير مفاهمية بمنظورات مصطلحات أركية لمنشآت (سوسيو- سياسية- تاريخية) وليدة حضارة غرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، التي فصلت على مقاس غرب المرحلة الكولونيالية و حاجياته الفورية التي هي مفاهيم تعكس قيم الغرب الخصوصية المتصارعة: ما بين تقاليده: (الهيلينية، الرومانية، التوراتية، المسيحية) وصراعاتها مع رؤاه لما بعد نهضته من : وضعية ،علمانية، تنويرية، إستعمارية، حداثية وما بعد – حداثية)، التي إنعكست على تاريخ الغرب الحديث المعقد الذى يفرزدوما مفاهيم متجددة، تستدعيها ضرورات تسارع حاجياته الفورية المركزية، والأنانية الفردانية، التي تستدعي كذلك الإجابة على تساؤلاته وصراعاته التي هي من مميزات كيان الغرب العام التي لا يخرج عنها في تفاعله المستمر مع الإرتجاجات التي تصيبه مع "الآخر" والعوالم الأخرى، وكلها من صلب طبيعة الغرب الجوهرية - لمن لا يعرفه من الداخل.
د. الطيب بيتي العلوي/ باحث أنثروبولوجي/ فرنسا
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |