شكراً لأنك وضعت شمسك في سمائنا
رواية " شمس " للدكتور محمد حسين بزي

وترى الدكتورة يمنى العيد في كتابها " تقنيّات السّرد الرّوائيّ في ضوء المنهج البنيويّ " أنّ هذا التحليل البنيويّ لا يتعارض والعملَ النقديّ حين ينهج منهجَ القراءة المُؤوِّلة الباحثة في دلالات النصّ و معانيه، وفي الفكر الذي يحكمُه؛ بل إنه يشكّل عوْناً غيرَ مباشرٍ له .
لكنّنا نميلُ إلى موافقة الفيلسوف الفرنسيّ البلغاريّ الأصْل " تودوروف " في قوله بأنْ "لا قراءة خارج التأويل"، بما يعْنيه التأويلُ من مغايَرة مستمرّة بين مدلول النصّ ( أيْ قول الكاتب )، و مدلولِ القراءة ( أيْ قول القارئ )، و من اختلافٍ بين نظرةٍ و أخرى بحسب اختلاف الوضْعيّة الأيديولوجيّة للنّاقد. و ذلك؛ لأنّ قراءةً لا تفجِّر في النصّ ينابيعَه و حِمَمَه ، ولا تستنطقُه ، و لا تتّخذ موقفاً من دلالاته، هي قراءة باردة، ما أشبهها بعملٍ تشريحيّ في جثة هامدة !
و عليه؛ و لأنّ النصّ حياة، و القراءة إحياء، فإننا سندخل مدار شمسِك، أيّها الصديق الدكتور محمد حسين بزي، و في عُجالة تراعي الوقت المحدَّد، منَ النوافذ الآتية :
أولاً – العنوان
ثانياً _ الحكاية
ثالثاً – اللغة
رابعاً _ الشخصيات
خامساً _ الأسلوب و البناء الفني
على مستوى العنوان؛ نحن لا نعتقد بأنّ اختيار المؤلّف لـِ ( شمس) اسمًا لتلك الأميرة العربيّة، وتاليًا، عنوانًا للرواية، كان محْض مصادفة، و إنّما أتى عن سبْق اصرار و تصميم ،نظراً لما للكلمة من إيحاء يتجاوز لفظَها المنطوق .
فـ "شمس" هي الحقيقة التي أراد الكاتب نبْشها من رمال التاريخ ، لتشرق في سماء هذا العصر ، الحقيقة التي تقول بأنّ العرب كانت لهم حضارتهم و تاريخهم و ممالكهم و مكارمهم قبل الإسلام بكثير، و أتى الاسلام ليتمّم بهم ولهم وللعالم مكارم الأخلاق. و العرب ما كانوا بدواً و رعيانًا فقط ، وإنما كانوا الأمراء و الملوك و الحكماء و الصّنّاعين، و الشعراء، و كأنّ بالدكتور محمد حسين بزي يصْفُقُ البابَ في وجه من يتجنّى على العرب و تاريخهم و إنجازاتهم من مستشرقين، و على رأسهم الألمانيّ مارغليوث، أو من أدباء عرب أنكروا على العروبة حضارتها قبل الإسلام و في مقدمتهم د. طه حسين في كتابه المعروف " في الشعر الجاهلي ".
والمؤلّف هو ابن بنت جبيل ، و اسم " بنت جبيل " من أصل كنعانيّ يعني الأميرة شمس ، و في ذلك تعبير عن مدى التصاق المؤلف بمسقط رأسه، و قد عبّر عن ذلك في مقدمته للرّواية.
وإنْ كنّا نرى بأنّ مجريات الرواية و شخصياتها بعلاقاتها و تفاعلاتها التي أنتجت بناءَها العامّ تفترض عنوانًا آخر غير( شمس ) .
وعلى مستوى الحكاية، فإنّها تسير في خطوط متعدّدة، لتتقاطع؛ مُشكِّلةً شبكةً من الأحداث والمواقف .
وإذا كانت مادّة كلّ حكاية تفترض خروجًا ما لإحدى شخصيّاتها، لا سيّما البطل، لتحقيق غايته، فإنّ البطل الأساس، وهو الملك الشابّ مالك كان له خروجان: الأول لإسقاط عدو الداخل وهو عمّه الوصيّ على العرْش والد الأميرة شمس، الطّامع بالمُلْك. ولهزيمة العدوّ الخارجيّ المتمثّل بملك الحبشة "ترهاقا" وجيشه الطامع بمملكة "أوسان" وخيراتها. وقد تحققّ النّصْر على العدوّين بتوحّد أهل المملكة وشجاعة ملكها الشاب، وتفاني أميرتها شمْس.
والخروج الثاني كان بعْد النّصْر؛ بحْثًا عن الأميرة شمْس التي اعتزلت النّاس في الطبيعة مع عالم الحيوان المُحِبّ المًسالم؛ حتّى أعادها إلى قصره زوجةً وملكة؛ بفعل الحبّ الذي جمعهما منذ الصّغر.
أما اللغة، فإذا ما تجاوزنا، بتسامحٍ، بعض الأخطاء الطباعيّة واللغوية النادرة التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فإننا نقول بأنّ لغة (شمس ) تشبه إلى حدٍّ ما ، لغة العصر الذي تنتمي أحداثها اليه؛ في فخامة، ورصانة، وانتقاء، وغنى، ودراية بكثير من أنواع النباتات والحيوانات والأسلحة والأمكنة والألبسة التي تعود إلى تلك الحقبة الزمنية.
وعلى مستوى الشخصيّات فإننا سنخرج من الإطار الواقعي لأبرز شخصيات الرّواية إلى مدلولاتها الثقافية والفكرية والاجتماعية والحضارية التي حققها انزياحها.
أولى تلك الشخصيات اللافتة هي شخصية القرد (نولان)الذي مثّل المحبة والسلام ومكارم الأخلاق ، وكأن المؤلف يئس من إيجاد شخصية انسانية تجتمع فيها صفات الحب والسلام والوفاء وحتى الانسانية فابتكر شخصية القرد الذي استطاع ان يطبِّع الوحش المهدِّد لحيوانات الغابة، وحوّله الى كائن نباتيّ، مسالم، ومحبّ. (نولان ) كان يد الله التي امتدت الى كل المعذبين والمقهورين والمحرومين
وانتشلتهم من معاناتهم وهو ارادة الله بأن يعمّ الخير والمحبة والسلام مجتمعَ الارض وهذا الكون.
إن الدكتور محمد حسين بزي في هذه الرواية ، وبخلفيته الفلسفية، ونزعته الانسانية ومثاليته شاء من القرد (مولان) ان يكون نموذجا يحتذى من بني البشر.
والشخصية الثانية هي شخصية الملك الشاب (مالك). وهو يمثل الحلم العربي الذي يراودنا جميعا في قائد شجاع ومخلص يقود الامة موحَّدة إلى نصر مبين على جميع اعدائها في الداخل والخارج.
وأما الملك الوصيّ (يشجب)؛ فهو يرمز الى كل خائن من امتنا منذ فجر التاريخ حتى يومنا، عمل لنفسِه ونسي الوطن، فعرّض الارض والعرض لكل المخاطر والضياع.
و(شمس) هي العروبة نفسها الواقفة بِحيرة بين والد مغتصب طامع شرير فاسد، وحبيب صاحب حق شجاع. فشاء المؤلف ان ينتصر لحبيبها، للوطن وللشعب، وللتاريخ والحاضر والمستقبل، ولعل في ذلك صرخةَ استنهاض لنا جميعا.
أمّا على مستوى الاسلوب والبناء الفني، فيمكننا تسجيل الملاحظات الاتية:
- هناك استغراق كبير في الوصف ، وإنْ أثّر احيانًا على حساب الحكاية وحبكتها وعنصر التشويق فيها، إلا أنه دلّ على دقّةٍ عاليةٍ في التصوير، وقدرة على التقاط التفاصيل.
- شاعرية المؤلف وشعريته طغتا على أسلوب النّصّ ونسق كتابته ، فاغتنت الروايةُ بالصُّور الفنّيّة والانزياحات والموسيقى الداخليّة.
- نأخذ على المؤلف احتلال المعركهِ المَفْصَل بين أبناء (أوسان) وجيش الحبشيين حوالى ثلث مساحة الرواية من الصفحة 114 إلى الصفحة 214، أما المساحة المتبقّيّة فخصّصها لكلّ الأحداث الأخرى .
- تقف هذه الرواية في موضع الوسط بين التأريخ والاستشراف، وكأنّ الدكتور محمد حسين بزّي أراد من إحياء هذا التاريخ المجيد والإضاءة عليه، أن يرسم صورةً لغدٍ أحلى وقد تأنْسن الانسان ليكون بحقّ خليفة الله على أرضه، فيحيا حُبًّا، وفرحًا، وسلاماً مع اخيه الانسان وسائر الخلق.
نختم لنقول : شمسك يا دكتور محمد ، اشرقت في قلبي وستشرق في قلب من يقرأها ، وقد شكلت اضافة حقيقية في داخلي ، حقاً، والقول قولك، إن الايام التي تمرّ غير مفعمة بالكثير ، لا تُعدّ من العمر في شيء، إنها لحظات مفعمة بالكثير من الانسانية والادب . شكراً لأنك وضعت شمسك في سمائنا.
* جميل حسين معلم
شاعر وتربوي
من مؤلفاته: شعرًا : وشْم البرق، وجهي البيلسان، في عينيكِ سرُّ صَلاتي، لعينيكِ هذا المدى.
أكاديميًّا: سلسلة صديق الطالب في اللغة العربية للمرحلة الثانوية، دربك إلى التحليل والإنشاء.
منسق اللغة العربية في ثانوية حسن كامل الصباح وفي المدرسة الإنجيلية الوطنية في النبطية وأستاذ في الجامعة الأميركية للثقافة والتعليم.
نائب رئيس ملتقى أدب ونائب رئيس نادي كفررمان الرياضي.
شاعر وتربوي
من مؤلفاته: شعرًا : وشْم البرق، وجهي البيلسان، في عينيكِ سرُّ صَلاتي، لعينيكِ هذا المدى.
أكاديميًّا: سلسلة صديق الطالب في اللغة العربية للمرحلة الثانوية، دربك إلى التحليل والإنشاء.
منسق اللغة العربية في ثانوية حسن كامل الصباح وفي المدرسة الإنجيلية الوطنية في النبطية وأستاذ في الجامعة الأميركية للثقافة والتعليم.
نائب رئيس ملتقى أدب ونائب رئيس نادي كفررمان الرياضي.