علي/ معادلة الثقافة - المجتمع
ما هي دائرة معارفنا العلوية؟
ماذا نعرف عن علي؟ سؤال طرحه بجرأة المفكر الإسلامي علي شريعتي وقبل أن يدلي بإجابته ، تعرض إلى سؤال المعرفة ما إذا كان مطلوبا الإدراك في واقع الثقافة المعاصرة من أن حصيلة المعرفة بالشخصيات التاريخية، تمر عبر تجدد النظرة إلى التراث وينابيعه، ولا تتجدد هذه النظرة ما لم تستند إلى قدر كبير من قراءة عقلانية فاحصة وتأمل دقيق في عمقها التاريخي والإنساني بعد أن تعبر مخاضات وتنضج من حقبة إلى آخري في ضوء علاقة المعرفة بالمجتمع وعلاقة الاثنين بدراما التاريخ .
وقبل أن تأتي إجابة شريعتي حول دائرة معارفنا العلوية، يضرب مثلا بأحد الباحثين الذين يتصدون للبحث في شأن معين فيسارع الباحث إلى المكتبة أو الانترنت الآن ليجد مئات المراجع إذا أراد البحث في موسيقى بيتهوفن- والمثال نفسه طرحه شريعتي- أو الروائي ديكنز ، مارك توين وغيرهما ، ولكنك حين تبحث عن مراجعك في شخصية مثل شخصية الإمام علي عليه السلام ، لا تجد سوى كتاب واحد تم جمعه في نهضة معرفية منقطعة من الحقب المعرفية العربية والإسلامية الحديثة وإذا واصلت البحث ، تجد آثارا هنا وهناك في السير التاريخية للمؤرخين الإسلاميين عبر مرويات العصور العباسية المتأخرة وتسلل الإسناد الروائي لحقب سابقة ، وبالتالي لا يحتاج الباحث إلى خارطة طريق منهاجية ، تؤمن له القاعدة المعرفية الأساسية لتحصيل المعلومة لتكون أساسا لانطلاق التحليل المعرفي بل يعمل في شان تأسيس القاعدة المعرفية أولا تمهيدا لمخاض الرؤية، وهو ما أنتجته حقبة التنوير العربي والإسلامي يوما عبر منجز محمد عبده والأفغاني وشريعتي في ما بعد دون أن تأخذ السياقات الثقافية التحامها مع حركة مجتمع متصاعدة فكانت الدينامية المعرفية غير منسجمة مع الركود الاجتماعي في القرنين الماضيين فجاءت مسارات التنوير بمستوى اقل من مسارات الواقع المتغير باتجاهات عشوائية متفاوتة بين القديم والحديث، وهذا شأن آخر ليس مبحثه هذه السطور.
لنسأل ثانية، ما هي دائرة معارفنا العلوية إذا استثنينا الذاكرة الموصولة بالدراما التاريخية الملأى بالمرويات الشعبية التي تتلون بالهوية القومية لبلاد مابين النهرين ووراء النهر ومرو وبلخ وكابل حتى بلاد الصين، ما هي في ضوء أنماطنا التحولية بين سفح الجبل وانبساط السهل ومفازة الصحراء إذ يتخذ مسار الحكايات العلوية شكلا متفردا لهوية سردية ، تسبغ على الشخصية ما تستعيض عنه من فقدان وتجمح إليه من نشدان، وليس غريبا على أسماعنا ما اعتقده البعض من تقديس وتأليه لشخصية الإمام علي عليه السلام تبعا لاعتقاد راسخ منذ مئات السنين وحقبة بعد أخرى، ومن مكان لآخر، يتشكل البعد الثقافي عبر هيمنة الأفق الاجتماعي والتاريخي قضايا الأحوال والنحل وليس العقل والنقل كما يقال.
وإذ تجاوزنا سؤال المعارف العلوية إلى من قرأ هذه المعارف انطلاقا من قاعدة معرفية أخرى شديدة الرسوخ، أي من تناول علي (ع) من منظور معين ومنهاجية محددة معرفيا بعقيدة أيديولوجية، ولعل المفكر هادي العلوي، يقف في مقدمة من تصدوا البحث على وفق المنهج المادي التاريخي ولكن يبقى الأساس الايدولوجي الاعتقادي والمنهجي كعقبة أكاديمية، تقف أمام التطور التاريخي للمنهجية الأكاديمية المفتوحة إزاء متغيرات المجتمع والمكتسب المعرفي في أثرها، وبالرغم من ذلك فن قراءة العلوي الثقافية، تشكل جزءا من الوعي المعرفي بشخصية الإمام علي وتضيف قدرا من النظرة إلى التراث وينابيعه التي تحدث عنها شريعتي.
المفكر عزيز السيد جاسم أيضا ، ألقى نظرته الثقافية والسياسية على سلطة الحق العلوية من المنظار القومي وأسس بهذا الاتجاه الخاص والمعتمل مع تجربته الشخصية مع الفكر القومي رؤية إلى الينابيع القومية في الأثر العلوي.
ومن القراءة الحديثة للمعارف العلوية ما بناه المفكرون في القرون الحديثة على ما أسسه المتكلمون الإسلاميون في القرن الرابع الهجري في اثر نزوع الحكم الإسلامي التسلطي إلى الاستبداد واعتقاد المتكلمين بأفول السيادة الدينية وهيمنة الإرادة الملكية مما امتزجت نظراتهم الفلسفية بواقع تطبيقي، يستند إلى قاعدة عريضة من الجمهور في كل الأصقاع ، واتخذ المتكلمون وجمهورهم من الإمام محورا جوهريا ولا متناهيا في النظر إلى الشؤون الدنيوية والأخروية واكتشفوا نظاما اجتماعيا ، يلغي الفوارق بين الحضور والغياب والوجود والعدم أساسه غياب العدل وحضوره في الإرادة الإلهية واغتصاب الملك لدى الطغاة وزواله المحتوم.
وثمة نظرة أخرى إلى الإمام علي في ما يترتب على الحقبة التي لحقت النبوة ، وتلك النظرة، تدعي بأنها الأكثر واقعية بين النظرات السابقة بالرغم من أنها تسفح السيرورة التاريخية للرؤية العامة ونضجها في الأذهان عبر الأزمان وتجمد عند حقبة محددة من الدعوة والنبوة، فهو الصحابي الجليل القريب جدا إلى رسول الله (ص) والذاب عن حياض الأمة والمدافع الأول عن بيضة الإسلام ومستشار الخلافة والخليفة الرابع.
تظل القراءات الدينية والثقافية والتاريخية، منتظمة في شبكة معرفية ، تتناغم في اتجاه هنا وتبتعد في منحى هناك بمعادلة الثقافة- المجتمع ، أي أن السيرورة الاجتماعية والتاريخية، تفرض رؤيتها المعرفية تلبية لدوافعها في الفضاء الاجتماعي والتاريخي وتعطي توصيفا وقراءة للشخصيات انطلاقا من ذلك.
وفي هذا السياق فان النظر إلى التراث وينابيعه لم تصل في الحدود المعرفية إلا لتتناسب وتتلاءم مع مستوى دينامية الحاضر ودرجة تكامله العامة على الصعد كلها ولا يمكن أن تتخطى منطقة الخطاب السائد الخالي من القاعدة العقلانية، وعلى هذا النحو فان القراءة الغربية كما في قراءة شريعتي التحديثية للشخصيات المؤثرة في دراما التاريخ والمعرفة أو ما قرأه العلوي بالرغم من المقاربة المنهجية المعاصرة ، ما هي إلا توصيفات أولية لمشروع معرفي لم ينطلق بعد في إطار الواقع ولم تنضج النظرة الموصولة بالبعد القومي كما في طروحات عزيز السيد جاسم لسلطة الحق عند الإمام علي ولذا فهو الظاهرة التاريخية العصية على التفسير التاريخي وهو الشخصية الأبعد من الرؤية القومية المعاصرة وبالقدر الذي يتشكل كيانيا بالوجدان العربي والإسلامي إلا انه أزمة حقيقية في تشكل العقل المعاصر.
يبقى علي (ع) عليا على مراهنات الإرادة المتسلطة وحسابات الحقب وإفرازاتها المعرفية ويظل مجالا مفتوحا لرؤى الفلاسفة مادام هنالك الطغاة والعتاة والغلاة.
محمد خضير سلطان: قاص وناقد (1958)، أصدر مجموعته القصصية الأولى (ما يشبه الأثر) عام 1989، له مجموعة قصصية جاهزة للطبع، له مخطوط رواية تنتظر الطبع، كتب العديد من المقالات والبحوث في الشأن الثقافي.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |