د. هبة رؤوف عزت تكتب: السيد محمد حسين فضل الله: رحيل عالم مجتهد
* بقلم: د. هبة رؤوف عزت
فقدت الأمة الإسلامية منذ أيام المرجع الشيعي اللبناني العلامة السيد محمد حسين فضل الله عن عمر يناهز 75 عاما إثر تعرضه لنزيف داخلي حاد أدخل علي إثره المستشفى فأرسل مكتبه لكل من على قائمة البريد الإلكتروني يطلب الدعاء.. فدعونا له بالعافية، لكن قضاء الله لا راد له.
ولد فضل الله عام 1935 بمدينة « النجف » بالعراق وظل بها حتي انتقل للعيش في لبنان عام 1966م، ومن المألوف في الدوائر الشيعية الانتقال من وطن لآخر وهكذا كان السيد موسى الصدر وغيره، يولدون في مكان ثم يسلكون سبيل العلم ويستقرون للتعليم في الحوزة الشيعية وللمشاركة في هموم المجتمع في مجتمع من مجتمعات الأمة، وهكذا كان شأن كل علماء المسلمين عبر التاريخ من السنة كذلك، فديار الأمة واحدة. وبعد أن تلقى تعاليمه الأولى بالنجف الأشرف، انتقل للبنان ليؤسس الهوية الشيعية في لبنان علي الصعيد الفكري العقائدي والسياسي والاجتماعي بشكل يتضافر مع جهود أخرى منها جهود السيد موسى الصدر، التي أحيت الوعي الشيعي وأخرجته من ضعف الشعور بالظلم إلى الفعالية والمشاركة والتمكين.
ولم يقتصر نشاط فضل الله منذ انتقاله إلي لبنان علي الدعوة النظرية، بل امتد إلي تقديم الخدمات الاجتماعية فأنشأ المعهد الشرعي الإسلامي والحوزة العلمية للنساء، وأقام مستوصفاً لتقديم الخدمات الصحية، وبعد اشتعال الحرب الأهلية انتقل للعيش في الجنوب، وأنشأ مبرات للأيتام ومؤسسات اجتماعية وصحية ومساجد. وإن لم يبتعد عن الفضاء السياسي والجهادي ضد القوات المحتلة للأراضي اللبنانية. كما كان السيد شاعراً فذاً وخطيباً مفوهاً.
ويعد فضل الله من القيادات الروحية لحزب الله اللبناني بالرغم من أنه لم يتول أي منصب إداري أو تنظيمي داخله، وكان من أهم الرموز الدينية الشيعية في لبنان والعالم الإسلامي بفضل التجربة السياسية والخبرة الاجتماعية التي اكتسبها طيلة الخمسين عاماً الماضية.
والقارئ لكتاباته يجد توجهاً تجديدياً وحساً أصولياً عميقاً، واعتياداً على ارتياد المسائل الفقهية الشائكة التي يحجم عنها الكثير من نظرائه.
وكان الفقيد من قيادات التقريب بين المذاهب الإسلامية فهو الذي أعلن - ربما قبل الجميع - حرمة سب زوجات النبي والصحابة رضوان الله عليهم، وأنكر في شجاعة حادثة ضرب عمر بن الخطاب لفاطمة الزهراء وكسره لضلعها، التي راجت في الأدبيات الشيعية، نافياً في وضوح إمكانية حدوث ذلك. وهو أيضاً من أنكر " مصحف فاطمة "، وأقر بمبايعة الإمام علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق، وقبوله لولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، مؤكداً أنه - الإمام علي - كان مستشاراً لهم، يعاونهم ويشير عليهم. وأنكر تقديس الأئمة، والقول بمعرفتهم بالغيب، ومطاولة مكانتهم لمقام النبوّة، مختلفا بذلك مع كثير من مراجع الشيعة، وعلى رأسهم آية الله الخميني.
وحين ثارت أزمة بعد تصريحات الشيخ القرضاوي منذ عامين بشأن الدور الإيراني في نشر التشيّع كنت في طريقي إلي لبنان لحضور ندوة أكاديمية، فأخبرت الشيخ القرضاوي بأني سأستأذن في زيارة السيد محمد حسين فضل الله، فسكت ولم يمنعني وذلك من كريم خصاله حتي في الخصومة ودليل على رفيع شيمه وسماحة صدره. أردت ساعتها أن يستمر التواصل ولا تنقطع كل الجسور، وأن على جميع المسلمين دور في الأزمات، وتوسط أخ كريم هو صاحب دار الأمير للنشر في بيروت الذي ينشر كتابات المفكر علي شريعتي ومجلة تحمل اسمه أشارك في تحريرها للحصول على موعد كي أقابل السيد بعد يومين فقط، وذهبت كإمرأة من عموم المسلمين السنة، بلا لقب ولا صفة أخرى، فاستقبلني السيد فضل الله بترحاب رغم انشغاله، وكان اللقاء لدقائق، ورغم النزاع والحملات الاعلامية الدائرين آنذاك حين أخبره مساعده بأني من تلامذة الدكتور القرضاوي أثنى بأدب وود على دور الشيخ ومكانته كعالم مجتهد ووصفه بالصديق وتحدث عن التقريب بين المذاهب باعتبار رسالته وواجبه وأكرم وفادتي وودعني في تلطف وحملني التحية.
وقد زرته مرة أخرى منذ شهور قليلة حين كنت في مؤتمر علمي في بيروت ورغم مرضه وامتناعه عن المقابلات فقد رحب بي مدير مكتبه حين اتصلت واستقبلني السيد مجدداً لدقائق وأهداني كتاباً صغيراً عن كربلاء ونسخة أخرى لباحث مصري أخبرته بأنه يهتم بكتاباته، وانصرفت بسرعة كي لا أرهقه، لكن شعرت يومها بأنه يتأهب للرحيل وبأني لن أراه مرة أخرى.
كانت أول معرفتي بفكر السيد فضل الله في أواسط الثمانينات حين قرأت كتابه " الإسلام ومنطق القوة "، فوجدت فيه نظراً ثاقباً، ثم تابعت كتاباته عن المرأة حين درستها بجانب كتابات المطهري وشريعتي وغيرهم من مفكري الشيعة، وتابعت مواقفه في التقريب بين السنة والشيعة وإنكاره على غلاة الشيعة تجاوزاتهم خاصة بضرب الرؤوس في ذكرى كربلاء، وتعرض على هذا النهج للكثير من الهجوم بل اتهامه بالمروق، والعمل علي تقويض المذهب الشيعي وهدمه من الداخل (!)، لكن جنازته اجتمع فيها الجميع بما يشهد له بمكانة انتزعها بعلمه وحنكته السياسية ودوره الاجتماعي وريادته الفكرية.
رحم الله السيد محمد حسين فضل الله ، ورزقنا كأمة إسلامية بحكماء على الجانب الشيعي يواصلون رسالته ويكملون مسيرته في الإجتهاد والإصلاح والتقريب.
* د. هبة رؤوف عزت : مدرس مساعد العلوم السياسية - جامعة القاهرة .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |