علي شــريعتي بين قراءتين أو بين سيرتين 1-2
بقلم: علي الديري
هذه سيرتي مع شريعتي كتبتها في العام ,1998 وحاولت أن أنشرها وقتها في الصحافة المحلية، لكني لم أتمكن من نشرها. بعد ثلاث سنوات تمكنت بحماس من عبدالله يتيم من نشرها في مجلة البحرين الثقافية، واليوم أعيد نشرها حرفياً ضمن هذا البروفايل المخصص لعلي شريعتي.
منذ مدة زمنية وأنا أحاول قراءة المفكر علي شريعتي إلا أني لم أجد الفرصة المناسبة، في هذه الأيام عثرت بالصدفة على كتابه '' الإنسان والإسلام '' الذي يضم ست محاضرات ألقاها في إحدى الجامعات الإيرانية العام 1967 .
أزحت جميع الكتب والمقالات والكتابات المتراكمة على طاولتي ورحت أقرأ فكر هذا الرجل، حاولت أن أقرأه قراءة تعرفية أولى أستمتع فيها بأفكاره وشواهده وأمثاله المندسة بين السطور، إلا أني لم أستطع الاسترسال في هذه القراءة؛ فالحس النقدي والرغبة في التحليل عادة ما يعكران مزاج هذه القراءة، حاولت أن أمنع نفسي من وضع الخطوط والإشارات وتسجيل الملاحظات إلا أنني لم أستطع بل إن القراءة تطلبت إحضار مجموعة من الأوراق تتسع لهذا الكم الهائل من الأفكار المتولدة من القراءة. تحولت إذاً القراءة من الاستطلاع والتعريف؛ لتأخذ وضع الاشتباك والتصيد والاكتشاف، رحت أقرأ الأسماء والإحالات والنبرات، لا أخفي أنني كنت أحاول في حركة خبيثة تصنيف الرجل، كانت تنتابني أسئلة من نوع هل هو إسلامي؟ إلى أي درجة يتماثل مع أفكار الكتاب الإسلاميين؟ هل يحمل خطابه شيئاً جديداً يستحق القراءة؟ إلى أي درجة يخضع خطابه لما يسميه محمد أركون إيديولوجيا الكفاح؟
هذه الأسئلة الأولية كانت مهمة بالنسبة لي شخصياً، لقد كنت أخشى أن أصاب بالخيبة، فأفق انتظاري كان يتوسم في الرجل قدراً كبيراً من الانفتاح المعرفي يميز خطابه عن بقية الخطابات الإسلامية المغلقة بأيديولوجيتها، لقد كانت الخشية تزداد اضطراباً مع كل سطر وبعد كل صفحة خصوصاً حين ترد مفردات (الإسلام - الغرب - الشرق - الرؤية الدينية) فالشحنات التي تحملها هذه الكلمات كفيلة بإشعال حرب فكرية تحرق الأخضر واليابس من العقول المعرفية.
بدأ الخوف يتلاشى؛ فأسماء المفكرين والفلاسفة المعاصرون بدأت تأخذ مكانها والإجراءات المنهجية لعلم الاجتماع الديني بدأت تمارس فعلها، شعرت بالرغبة في التحول إلى مبشر يوجه العقول المتدينة نحو قراءة كتابات هذا المفكر؛ ففيها تحولات كبيرة نحو تحديث خطاب الفكر الإسلامي وفيه ثوابت تحفظ الضمير العقائدي من آلام الجروح المعرفية التي تخدش قلوب المفعمين بثوابت الدين التقديسية. شعرت بارتياح لا لكون الرجل يراعي حساسية شعوري الديني؛ فأنا مارست خدش هذه الحساسية بنفسي منذ أن اشتبكت بمنهجيات العلوم الإنسانية الحديثة، وأنا الآن لا أشعر بالألم فقد تولت هذه المنهجيات استئصال هذه الحساسية ومنذ ذلك الحين وأنا لا أشعر بأي حساسية والحمد لله. ما مبعث الارتياح إذاً؟
سؤال يحاول أن يطوق مراوغة خطابي، وأنا وإن كنت أحاول أن أتخلص من هذه المراوغة - بالمعنى المعرفي وليس الأخلاقي - إلا أني أجد نفسي بشكل لا شعوري أتخفى وراءها، ربما تكون هذه الاستراتيجية سمة بنيوية لا تبرأ منها الخطابات، فالخداع والمراوغة يمثلان - كما يرى فوكو - البنية التي يقوم عليها كل خطاب.
لأرجع إذاً إلى السؤال - صدقوني إني أحاول أن أقاوم هذه المراوغة - سؤال الارتياح من هذا الخطاب، الحقيقة - كما تبدو لي الآن - هي أني وجدت في خطاب شريعتي ما يمكن أن يمثل قنطرة يمكن العبور بواسطتها نحو مرحلة التحرر من الايديولوجيا الدينية، أي يمكن قراءة شريعتي من قبل المتأدلج دينياً قراءة مقبولة بوصف شريعتي مدافعاً عن الإسلام وإيديولوجيته وإن كان هذا الدفاع يخرج على الكثير من التصورات التقليدية، تبقى محاولة شريعتي مقبولة طالما أنها لم تعلن قطيعتها مع المبادئ الايديولوجية ذات الأبعاد الدينية.
التحديثات التي أدخلها شريعتي على خطاب الحركة الإسلامية - وإن كانت التسمية غير دقيقة في هذا الموضع - تستدعي قراءة نقدية تبرز أهمية المحاولة وما حققته من إنجازات وما أخفقت فيه من محاولات وما وصلت إليه من فتوحات معرفية.
إننا مع خطاب شريعتي أمام محاولة تحديثية تستعين بالمنجزات الفكرية الغربية لقراءة واقعها الاجتماعي ذي التكوين الديني، إنها تستعين بهذه المنجزات لكي تقوم بعملية تطوير وتحديث من دون أن تخرج عن روح مجتمعها وثوابته الدينية، وهذا ما يجعل من قراءته مقبولة إلى حد ما في البيئات الدينية، إلا أننا لا نقرأه من هذا المنطلق ولا نؤوله انطلاقاً من هذه الثوابت، فقراءتنا أبعد ما تكون عن الارتهان إلى ثوابت اجتماعية أو أطر مجتمعية تحدد نطاق حركتنا النقدية، إننا نقرأ خطاب شريعتي بوصفه محاولة فكرية رامت تجديد الخطاب الديني عبر تقديم محاولة تأويلية لمتبنياته العقائدية ومنطلقاته الفكرية (انظر على سبيل المثال التمايزات التي يقيمها بين التشيع الصفوي والتشيع العلوي).
لقد قرأت شريعتي في سنتي الجامعية الأولى فوجدت في خطابه ثورة تجديدية تقوم على إحداث قطيعة مع التصورات التقليدية للدين فأغرتني هذه الثورية لاعتناق الايديولوجيا الدينية في شكلها الحديث الذي يقدمه خطاب شريعتي، إلا أني اليوم أعاود القراءة من جديد - بعد ثماني سنوات من القراءة الأولى - لأكشف ما كان مستوراً عني لعلي أعيد الاعتبار لذاتي المفكرة التي كانت خاضعة لمنطق وصائي تابع، ربما هذه القراءة تكون إعلاناً بشكل من الأشكال عن مرحلة الاستقلال التي كانت مغيبة تحت تراكمات خطابية لعبت دور الملقن الذي يقول لنا ما ينبغي أن يقال وينطقنا بما يجوز النطق به.
ستكون القراءة إذاً خلافية وربما تكون من الناحية النفسية انتقامية، تثأر لنفسها بما انتهك من حقها في الماضي من استغفال واستحمار- كما يوحي بذلك كتاب شريعتي ( النباهة والاستحمار ) - الانتقام هنا ليس من شريعتي ولا من خطابه بل من طريقة التلقي التي شكلتها خطابات تلك المرحلة، التلقي كان يعني تسلّم أفكار العظماء من الكتاب والمفكرين، تسلّما يحل أفكارهم ورؤاهم في ذاتنا من غير أن يكون لهذه الذات حضور تعلن به عن نفسها، الانتقام يأتي اليوم على صورة إعادة اعتبار لهذه الذات لتقول هي أيضاً رؤيتها الخلافية. كيف يبدو خطاب شريعتي إذاً وفق رؤية هذه الذات ؟.
شريعتي مثقف ملتزم، وهذه الصفة هي مصدر قوته، وفي الوقت نفسه مصدر ضعفه بوصفه مفكرا، قوته لأنها دفعته لقراءة واقعه الاجتماعي والثقافي وحركته لتغييره، وضعفه لأنها شغلته كثيراً لدرجة أنه لم يكن يرى إلا ما يمكن أن يمثل التزاماً اجتماعياً وسياسياً كل ما لا يجد أثره المباشر من الأفكار في واقعه الاجتماعي كان يغيب عن ساحة تفكيره بل إن هذه الصفة دفعته في كثير من الأحيان لتبني مواقف تقييمية يطلق من خلالها أحكام قيمة على الأشياء من غير اعتبار لذاتها فالمهم هو ارتباطها بالمجتمع، وبمدى قدرتها على التغيير تكتسب قيمتها الإيجابية ربما كان شريعتي يعمل تحت مظلة مقولة ماركس '' علينا أن ننشغل بتغيير العالم لا بفهمه ''.
لقد كان الالتزام موقفاً تقدمياً جعل من خطاب شريعتي خطاباً جماهيرياً بعيداً عن النخبوية كما أنه أكسب نبرة خطابه بعداً تحريضياً يستثير القارئ للنزول إلى الشارع للثورة ضد قيمه وعاداته المتخلفة. الالتزام كان يشغل خطاب شريعتي وأفق قارئه بالتغيير وأساليبه، يقول أبو الحسن بني صدر '' في العام 1963 كنا معاً في باريس، نبحث عن جواب عن السؤال الملح : ما العمل ؟ ''
الفهم يأتي ضمن خطة العمل لكنه لا يحضر كأولوية بل كمتطلب يخدم هدفا أسمى؛ لذلك كثيرا ما يُضحى به حين يكون وقع العمل أشد من وقع متطلبات الفهم، لم يكن العمل ضمن خطة الفهم؛ فالظرف التاريخي والسياق الاجتماعي يقولان للمثقف عليك الالتزام بنا والانشغال بقضايانا المباشرة، وهذا النداء هو الذي استجاب له شريعتي وصاغ مشروعه النهضوي على أساسه، لقد كان شريعتي يتمثل بمقولة الفيلسوف شاندل ''إن مجتمعا متخلفاً وغير واع، إنما يحتاج إلى قيادة ثورية هادية. ففي هكذا مجتمع، تكون الديمقراطية عدوة للدمقراطية''.
إذا كانت الديمقراطية السياسية تعد في هذا المجتمع المتخلف عدوة لنفسها، فإنها تعد على المستوى الفكري ترفاً ينبغي الحد من التمتع بملذاته، القيادة الثورية هي خلاف ما تبدو عليه في هذه المقولة، فهي ليست سياسية وإدارية كما قد تبدو بل هي قيادة فكرية تتولى تحريك أفكار الجماهير من غير أن تسمح بممارسة ديمقراطية التفكير تلك الديمقراطية عدوة ذاتها.
إن شريعتي لا يكتفي بالتنظير الثوري لمجتمعه بل راح يقرأ التاريخ وفق هذه الرؤية، وأخذ يعطي تفسيرا لفكرة الإمامة يتطابق وهذه الرؤية، الإمامة المبنية على فكرة الوصاية في التاريخ الإسلامي تمثل '' الفلسفة السياسية لمرحلة معينة من الثورة، حيث كانت الحاجة لاستمرار الرسالة الاجتماعية للمؤسس الفكري والاجتماعي للحركة وحيث كانت الإمامة قائمة على أساس ثوري وضرورة من أجل إتمام رسالة الثورة عبر أجيال حتى تتمكن الجماعة من الوقوف على قدميها، آنذاك كانت نهاية الإمامة ونهاية مرحلة الوصاية التي كانت مرحلة ثورية خاصة ومحددة وبدأت مرحلة الشورى والبيعة والإجماع أي مرحلة الديمقراطية وهي الشكل الدائم والاعتيادي واللامحدود لتنظيم وقيادة المجتمع '' / الأمة والإمامة، نقلا عن فاضل رسول ''هكذا تكلم على شريعتي''.
هذه الفكرة تثير الكثير من الجدل وتستثير الكثير من القضايا والنتائج التي يمكن أن تقرأ في ضوئها كثيرا من المتبنيات العقائدية، لكننا لن نخوض في ذلك لكوننا نقرأ القضايا الكبرى التي شغلت فكر شريعتي وأنتجت خطابه، ولكون الأطر الاجتماعية الدينية لا تسمح لنا بذلك. على هذا النحو تعمل إذاً صفة الالتزام، إنها لا تكتفي ببناء الذات بناء رساليا يثير فيها الإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقها، بل تتغلغل في آليات اشتغال العقل لتوجه الذات المفكرة وهي تنتج خطابها وجهة ملتزمة بخط ثوري، أي أن صفة الالتزام لا تكتفي بحض الذات على العمل والإنتاج والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية بل تتدخل في فرض خططها وطريقة تفكيرها وإعطاء مسمياتها.
لنمضي مع خطاب شريعتي وهو يتحلى بهذه الصفة الالتزامية في قراءته للتاريخ.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |