علي شريعتي وعملية تجديد الفكر الإسلامي
تمر هذه الأيام الذكرى الثلاثون لرحيل واحد من أهم مفكري العالم الإسلامي في القرن الميلادى العشرين والذي يستمر تأثيره الفكري والسياسي حتى الآن، خاصة في وطنه إيران وبين صفوف الشيعة، ولكن أيضاً علي امتداد العالم الإسلامي بأسره. وأعنى هنا المفكر الراحل الدكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي لعب دوراً هاماً فــي تجديد الفكر الإسلامــــي بشكل عام، والشيعي علي وجه الخصوص، مما جعل بعض المحللين والباحثين من الغرب يشبّه دوره بالدور الذي لعبه مارتن لوثر في تاريخ تطور الفكر المسيحي.
وكان لشريعتي نظريته في قراءة وتفسير التاريخ، فكان للتاريخ عنده دائماً موضوع واحد: التناقض المستمر بين معسكرين. وقد بدأ هذا التناقض بين ولدي آدم عليه السلام: هابيل وقابيل. ولم يوافق شريعتي علي التفسير التقليدي بأنه كان تناقضاً أخلاقياً بل رأي فيه صراعاً علي السلطة والثروة والدين. وقد مثل هابيل معسكر الأخوة الإنسانية والعدالة والمساواة واعتبار الدين أداة للوعي.
وبالمقابل، مثل قابيل بواكير نزعة الاحتكار للسلطة والثروة وتزييف الدين، والتعدي علي حقوق الآخرين. واعتبر شريعتي أنه منذ ما أسماه بـ « هزيمة هابيل » احتكر معسكر قابيل كل شيء – مادي و غير مادي- في هذه الحياة. وقد عبر القرآن الكريم عن ممثلي هذا المعسكر في قصة النبي موسي عليه السلام من خلال الثلاثي: فرعون رمز السلطة السياسية، وقارون رمز الثروة الاقتصادية، وهامان رمز المؤسسة الدينية الرسمية.
وعلينا أن نشير هنا إلى رؤية شريعتي النقدية للحضارات الإنسانية. فقد رأى أن الشعوب هى التي أقامت صروح هذه الحضارات إلا أن أحداً لم يذكر لها هذا الدور ونسبت الحضارات للنخب الحاكمة التي مارست القمع ضد شعوبها. وفي كل الحضارات حاربت الشعوب بعضها البعض دون وجود أسباب حقيقية للعداء في ما بينها، وإنما حاربت الحضارات لحساب قاهريها ومستغليها في كل قطر، حتى ولو علي حساب الشعوب. إلا أن شريعتي وجد تأثيراً إيجابياً لهذه الحضارات، وهو أنها تذكر البشر دائماً بأن الاستغلال والقهر ظاهرتان يجب محاربتهما.
وكان شريعتي علي معرفة متعمقة بالتاريخ والفلسفة الغربيين مع وعيه بدينه وتقاليده، إلا أنه انتقد بعض الأفكار الأجنبية بنفس القدر الذي انتقد الفكر الإسلامي التقليدي. وكان هدفه أن يجعل الأصالة وسيلة للتحرير والتغيير، ولهذا الغرض استخدم كافة المفاهيم وأدوات التحليل التي وجدها مفيدة له في تلك المهمة، مهما تعددت مصادرها.
ونذكر هنا أن شريعتي دعا إلى دراسة الغرب وتاريخه وتطوره الحضاري والاجتماعي، والحركات الفكرية فيه – خاصة منذ عصر النهضة مع التركيز علي البروتستانتية ودورها في أوروبا في العصور الوسطى – وقادة الغرب ومقارنة كل ذلك بالإسلام. وقد تحدث عن عداء الغرب للإسلام، إلا أنه انفتح عليه ليتعلم ما يفيد نضال المسلمين من أجل التحرر والتقدم. وكان توجهه هذا بديلاً لغلق رجال الدين الأبواب أمام الأفكار والتجارب الغربية مما أدى – في رأي شريعتي – إلى سوء فهم للغرب. وأدمج في طرحه معطيات من الفلسفة وعلم الاجتماع والفكر الغربي، وأيقن أن المسلمين لا يحتكرون كل الأمور الإيجابية، وإلا لكانت أحوالهم مختلفة عما هي عليه. ولم يكن كافياً بالنسبة لشريعتي أن يقول المسلمون إن لديهم القرآن والسنة، بل كان من الضروري فهم جوهريهما ودراسة ما هو موجود لدي غير المسلمين لمعرفة ما قد يفيدهم ويتفق مع مبادئ الإسلام.
وبحسب رأي شريعتي، فإن التغيير السياسي والاجتماعي يجب أن يهدف إلى بناء مجتمع أطلق عليه تعبير « المجتمع التوحيدي » من منطلق أنه يعكس الإيمان بالله الواحد علي الأرض في شكل تنظيم المجتمع البشري، بحيث يكون مجتمع الإنسانية الواحدة دون أى تباينات أو تناقضات. واعتبر شريعتي أن من شأن تأسيس مثل هذا المجتمع تنفيذ الأمر الذي أصدره الله في كتابه (القرآن الكريم) عندما خاطب البشر جميعا بلفظ «الناس»، دون أى اختلافات أو فوارق. كذلك فإنه في القرآن تم استخدام لفظ الجلالة وتعبير «الناس» بشكل تبادلي عندما تعلق الأمر بالحكم والثروة، بل بالدين نفسه. وبالتالي، فإذا كان الحكم لله فذلك يعني أنه للناس أيضاً وليس لحكـام مستبديـن، وإذا كان المال ملكا لله، فإنـه ملك للناس وليس لحفنة منهم، وإذا كان الدين لله، فإنه للناس أيضاً وليس حكراً علي مؤسسة دينية رسمية.
وقد تطلب تصور شريعتي لتجديد الفكر الإسلامي، خاصة الشيعي، جهداً كبيرا منه في إعادة تعريف المفاهيم الشيعية الأساسية حتى تعكس رسالة الإسلام الشيعي التقدمية كما طرحها شريعتي، ويجب أن نعيد التذكير هنا بتفرقته بين التشيع العلوي الأصيل والتشيع الصفوي المشوش، في إشارة للأسرة الصفوية التي حكمت إيران في القرن الخامس عشر الميلادي ونشأت في ظلها المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية.
ففي ما يتصل بمفهوم « الإمامة » رفض شريعتي التفسير الصفوي له باعتبار الإمام إلهاً صغيراً أو كائناً خارقاً للعادة، أو وسيطاً بين البشر والإله، ورفض تأجيل مناقشة كافة المسائل التي تخص الأمة حتى عودة الإمام. وبالمقابل، دعا إلى تنشيط الدور السياسي للجماهير، وذلك استعدادا لعودة الإمام الغائب حتى يشعر بالسعادة حين عودته عندما يري أتباعه يقلدون مثال الإمام علي ابن أبي طالب ويحاربون من أجل العدالة. ورأى شريعتي أنه في ظل غياب الإمام علي الجماهير تقرير أوضاعها الروحية والاجتماعية تحت قيادة مستنيرة ومؤمنة ونقية.
وهاجم شريعتي التفسير الصفوي لمفهوم « التقليد » بما يعني الطاعة العمياء والامتيازات الخاصة لرجال الدين والإقرار باحتكارهم لتفسير الدين. وهنا وقف ضد الوضع المؤسسي لرجال الدين وأي امتياز يحصلون عليه بصفتهم تلك. كما فسر شريعتي مفهوم « العدل » باعتبار أن الإيمان بالله « العادل » يستوجب نضال المجتمعات الإنسانية ضد الأوضاع الظالمة. وقد رفض التفسير الصفوي لـ « العدل » باعتبار تنفيذه مؤجلاً إلى الدار الآخرة تاركاً هذه الحياة للحكام – مهما كانت درجة فسادهم – وباقياً في حالة « انتظار » (وهو مفهوم شيعي آخر يعني انتظار عودة الإمام الغائب).
واعتبر شريعتي احتفالات شهر محرم الشيعية لإحياء ذكري استشهاد الإمام الحسين ذات رسالة واحدة: واجب الشيعة النضال ضد الإمبريالية، والصهيونية، والنهب الاقتصادي، والعنصرية والقهر والاستغلال. فحسب شريعتي ليست احتفالات محرم صرخة من أجل الحسين الضحية الفقير، ولكن من أجل الحسين الذي حارب واستشهد من أجل العدالة، ومثل حق الإنسان غير القابل للتصرف في المقاومة، وأعطي المسلمين درساً في مقاومة التزييف الديني.
ونلحظ أن إعادة تفسير شريعتي لبعض المفاهيم الشيعية من منظور تقدمي جاء مختلفاً عن تفسيرات الاتجاه العام للمؤسسة الدينية الشيعية. وفي كل ما طرحه أكد أهمية المسؤولية الاجتماعية والتغيير الاجتماعي في إطار إعادة تفسير هذه المفاهيم.
ولقد جذب فكره الشباب الإيراني الراغب في التعرف علي دينه وثقافته وتاريخه بشكل جديد لا يتناقض مع أصالته من جهة ولا مع معطيات العالم الحديث الذي يعيش فيه من جهة أخرى. وتداخلت دوائر تأثيره لتشمل الطبقة الوسطى من « البازار » التقليـدي وطلاب المدارس والجامعات الحديثة والمثقفين وطلاب الحوزات العلمية وبعض رجال الدين، خاصة من الفئات الصغرى أو الوسيطة.
والثابت اليوم أن تيارات فكرية وسياسية كثيرة في إيران تتنافس في ادعاء انها خير ممثل لفكر شريعتي التجديدي، وهو أمر يدل علي مدى تأثيره الواسع والعميق في آن واحد، ويشمل ذلك فئات داخل الحكم الإيرانى مثل انصار الرئيس السابق خاتمي، ومفكرين إصلاحيين مستقلين كالدكتور عبد الكريم سروش، وفئات في المعارضة خارج إيران مثل منظمة مجاهدي خلق إيران.
المصدر : © الحياة - 17/06/07//
وليد محمود عبد الناصر : دبلوماسي وأكاديمي وكاتب في آن واحد
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |