صرخات شريعتي وخصومة مطهري
* بقلم: عبدالغني الخنجر.
كانت بدايتي مع كتب الشهيد الدكتور علي شريعتي بداية عادية جداً، حتى قرأت الأسطر الأولى لي من أحد كتبه، وتعايشت مع مضامينها الثورية المصبوبة في قوالب تميّزت برقة الأسلوب الأدبي التي كانت تغلف أحرفها وتتغلب حتى على تداعيات الترجمة. لقد حرتُ في أسلوبه الأخّاذ السلس الممتزج مع ثوريته العالية جدا. تعايشتُ معه كاتباً ومفكراً، وتعايشت معه مواطناً بسيطاً. تقمّصتُ شخصيته وأنا أقرا كتبه، فوجدته من زاويتي مفكراً كبيراً وإنسانا متواضعا، نقياً كالثلج وواضحا كأشعة الشمس، دافئا حنونا على المستضعفين المحرومين، قريبا منهم، يعيش همومهم ويدافع عنهم، حارقاً ملتهباً في وجه المستبدّين والظلمة، يمقتهم ويقاومهم ويفضح تجبّرهم.
أسلحته في وجه الظلمة والمستكبرين هي: صدقه، وانطلاقه من رحم المحرومين. هكذا وجدتُ كلماته تتسلسل إلى الأعماق، وفعلاً يصدق عليها القول المعروف: ما خرج من القلب فإنه يصل إلى القلب. صاحبني تصديقاً لكلّ كلمةٍ كنت أقرأها له، وتفاعلتُ مع كلّ مضمون يطرحه في كتبه، حتى تمثل لي بأنه الأكثر نقاءً وصدقاً، وشعرتُ بأنني أحبّه حباً أعمى، وصرتُ أردّد مضامين ما يطرح في كتبه، وأتأمّلها، وتراودني دون إذن، وفي معظم من الأوقات.
العقل والضمير بين مطهري وشريعتي
كنتُ أقرأ، وأقرأ، وأقتني كتاباً تلو الآخر من كتب شريعتي، أدوّن، وأستمتع بترديد ما يطرح من نقاشات، حتى جاء اليوم الذي صُدمتُ فيه بقصة ‘’حسينية الإرشاد’’ في طهران، فوجدتُ فيما قرأتُ بأنّ خصمين قد اختصما، وكأنما ضميري أصبح قاضياً، وعليه أن يحكم بينهما. كلا الخصمين قريبان مني، وكلاهما يسكن وجداني. الأدلة كلها في طيّ التاريخ، ومن الماضي. الخصم الأول؛ الشهيد مرتضى مطهري، وهو الشخصية التي عشتها من قبل، والتي فتحت عينيّ على القراءة على كتبها، ولازلتُ أذكر أنّ أول كتابٍ اقتنيته، عندما كان عمري 17 عاما، كان للمطهري. أما الخصم الثاني، فكان الشهيد علي شريعتي، وأنا الحكم في خلاف دونه التاريخ بأوجه وتفاصيل متعددة؟
حيرة وذهول جعلني أقرأ حول الخلاف، وأترجم بنفسي من الفارسية إلى العربية رغم قدراتي البسيطة جداً في هذا المجال، وفي ذات الوقت أزداد تطلعي لقراءة المزيد من كتب الشهيد علي شريعتي. بدأت حالة من الشكوك، وأخذ الحب الأعمى يضعف بداخلي. شرعتُ في التدقيق عند كلّ عبارة، وأبحث عن التناقضات، مقارناً بين حبيبين، وشهيدين، مطهري وشريعتي. كانت أياماً قاسية لم أجرّبها من قبل، فزاد إطلاعي على كتب شريعتي ومطهري، وبحثتُ عن كلّ كلمة تُنصف شريعتي وتُبقيه في عيني بطلاً، مفكراً ومنتجا بامتياز. قناعتي لم تتغيّر، وحبي لشريعتي لم يفتر.
هل اقرأ لشريعتي أم أتوقف ..؟
هل الشبهات التي يثيرها البعضُ حول شريعتي هي شبهاتٌ حقيقية أم أنها أثيرت ضده في ظروف معينة ولأهداف معينة؟ كان سؤالاً يراودني ويتلوه سؤال آخر، وفرضية جدلية تحاصرني كلما فتحت كتاباً لشريعتي، وكلما زاد كتابٌ في واجهة مكتبتي المتواضعة لشريعتي، تلك الفرضية هي: في حال أن الشبهات ضد الشهيد شريعتي كانت حقيقية فما مدى تأثيرها على وعيي وثقافتي ومبادئي التي أؤمن بها؟ وهل تمسخ فرضية صحة الشبهات كلّ ما تيقنته حول ثورية الرجل وإخلاصه لمبادئ الحق والحقيقة؟ كانت هذه الفرضية هي جلّ القلق الذي راودني بعد إطلاعي على الخلاف بين المطهري وشريعتي. لم أكن أخشى على نفسي من كتب الشهيد شريعتي، ولكنني كنتُ أخشى أن تنمحي الصورة الناصعة التي رسمتها لهذا الشهيد. فعندما تسقط صورته بداخلي؛ فإنّ كل ما قرأته من كتبه وأفكاره تكون بالنسبة لي مجرد حبر على ورق.
توقفتُ قليلاً وجرّبتُ كتباً أخرى مليئة بالفكر والتعقيدات والنظريات بالنسبة لي، محاولاً الخروج من دائرة كتب الدكتور شريعتي، باحثاً عن بديل مؤقت يخرجني من حبي الأعمى للشهيد شريعتي، لكنني كلما مررتُ بمكتبة أو دار نشر ووقعت عيني على كتاب جديد لشريعتي؛ استوقفني أولاً نقاوة عناوين كتبه، وشعوري بقربها من طبيعتي وتكويني، وكأنما كتبه فطرية تلامس فطرية الإنسان فتجبره على التوقف أمامها.
هكذا وجدتُ كتبه بعد كلّ المخاضات التي مررتُ بها وإعادة القراءة، وبعد أن جرّبت كتب غيره، وجدته الأقرب لي، فهل هي قصة سحر يراعه أم أنها قصة امتزاج شخصيتي وقربها لما يطرح؟
بعد كل المخاضات هناك قرارٌ حاسم
كلما اقتربتُ من مكتبتي، أمسكت بإحد كتب الشهيد شريعتي، ووضعتُ أناملي على صفحة الغلاف وتحسّستها برفق مستشعراً لذة عجيبة، أتأمّل في صورته على الغلاف، أشمّ رائحة الدخان من سيجارته التي أراها لازالت مشتعلة، أرمق وجهه وابتسامته، وربطة عنقه، ووجهه الأسمر وعيناه الحادتين، أفتح بعضَ كتبه التي قرأتها سلفاً وأطوف حول العناوين، وأذهب لبعض صور الوثائق التي كُتبت بخط يده، ألاحظ خطه الفارسي السريع المتناسق، فاستذكر بعض ما كان يقول بأن بعض أفكاره من دوّنها بشكل سريع، وأنها بحاجة للمراجعة.
وهنا اقتبس بعض ما كتبه الشهيد لأنهي به مشاهدتي لكتبه يقول ‘’يجب عدم النظر إلى أعمالي على أنها أعمال علمية تحقيقية فحسب، بل يجب أن نتلقاها كصرخات ? من شدة الألم والأسى ? ودلائل باتجاه الطريق وهزات من أجل الصحوة، ومشاعل على الطريق، ونظريات كلية في إطار الدين، ودعوة واحدة ورؤى، وأخيرا نوعا من التعبئة الفكرية والروحية في المجتمع’’.
أعلم فيما قرأتُ للشهيد شريعتي أنه كتب جلّ أعماله وهو في ظروف ضاغطة، منفياً ينتظر المصيبة في كلّ لحظة حسب تعبيره. لذا فنجده يقول ‘’لذلك يجب أن يُعاد النظر في هذه الكتابات من الناحية العلمية والفنية، وتصحيح الأخطاء اللفظية والمعنوية وتطبع مرة أخرى، هي ثمرة حياتي، وكل ما أتمنى، وهي كل وجودي وميراثي’’. كانت تلك شذرات اخترتها من وصية الدكتور شريعتي علّني أستطيع أن اختم بها مشاهداتي، مستيقناً أنني باق على حبي له، وشغفي بكتبه، ومستنيراً بقوله أن يُعاد النظر في كتاباته من الناحية العلمية والفنية.
صحيفة الوقت 30 أغسطس 2007
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |